فصل: سنة خمس وأربعين وأربعمائة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء **


 سنة إحدى وأربعين وأربعمائة

في ثاني المحرم صرف قاضي القضاة أحمد بن عبد العزيز بن النعمان عن القضاء‏.‏

وكانت هذه ولايته الثانية وله فيه ثلاث عشرة سنة وشهر وأربعة أيام‏.‏

واستدعي إلى حضرة المستنصر القاضي أبو محمد اليازوري وخلع عليه مكانه في رابع عشره وقرئ سجله في الديوان وخرج والدولة بأسرها بين يديه‏.‏

واستناب ابنه الأكبر أبا الحسن محمداً ولقب بالقاضي الأجل خطير الملك وأقام ابنه الآخر في جهات السيدة‏.‏

وشرع الوزير في الإرسال إلى السيدة بأن يستقر ابنه في بابها فامتنعت من ذلك وقالت ما كنت بالذي يستبدل به بوجه ولا سبب‏.‏

فسقط في يده وقال‏:‏ أردنا وضعه والله تعالى يريد رفعه‏.‏

فقال له أبو الفضل‏:‏ أما إذ جرى الأمر بخلاف ما ظنناه فليس إلا مجاملة الرجل‏.‏

وكان أبو محمد اليازوري لا يسلم على الوزير ولا يجتمعان إلا يوماً في الشهر يحضر إلى دار الوزير فإذا حضر إليه احتجب عن كل أحد وتلقاه قائما وأجلسه على مخدة وأعطه من المجاملة فوق ما يؤثره منه وهو مع ذلك يبطن له السوء ويعمل في التدبير عليه‏.‏

وكانت أيام الوزير كلها رديئة لكثرة القبض على الناس والمصادرات واصطفاء الأموال والنفي ونحو ذلك فكثر الذام له‏.‏

وكان أيضاً يبطش بمن يبطش به من غير علم الخليفة ولا استئذانه فتغير خاطر الخليفة عليه وتكثر منه تغيظه‏.‏

إلا أن العادة جرت بألا يعترض الوزير فيما يفعله ويمد له في النفس ويصبر على ما يكون منه‏.‏

وفيها قبض على أبي نصر إبراهيم بن سهل واتهم أنه مالأ ثمال بن صالح حتى قتل جعفر بن كليد صاحب حمص وسلم إلى الوزير أبي البركات الجرجرائي فضيق عليه وصادره حتى مات تحت العقوبة‏.‏

وكان هو الذي سعى به إلى المستنصر فقال إنه عين لثمال‏.‏

واتفق وصول الخادم رفق إلى دمشق وخروجه منها في سادس صفر يريد حلب فوصل إلى جبل جوشن في ثاني عشري ربيع الأول وأقام هناك ثم بدا له فبعث بما معه من الأثقال إلى المعرة فظن من معه من العساكر أنه يريد أن ينهزم فأجدوا في الرحيل وقد حاصر قلوبهم الوجل وداخلهم الخوف فأمر بردهم إليه فأبوا ذلك عليه‏.‏

وفطن أهل حلب لهم‏.‏

فتبعوهم ونهبوا ما قدروا عليه منهم وكانت بينهما حرب جرح فيها رفق في عدة مواضع من رأسه وبدنه وأسر وانهزم العسكر بأسره‏.‏

وحمل رفق على بغل وهو مكشوف الرأس ومعه جماعة من وجوه عسكره فلم يحتمل ما أصابه واختلط عقله ومات بقلعة حلب بعد ثلاثة أيام في مستهل ربيع الآخر واعتقل عامة من كان معه من القواد والكتاب بحلب‏.‏

فلما ورد الخبر بذلك على المستنصر أمر بالإفراج عن ناصر الدولة أبي محمد الحسن بن الحسين بن حمدان من الاعتقال وقلد إمارة دمشق الأمير المؤيد مصطفى الملك معز الدولة ذا الرئاستين حيدرة بن الأمير عصب الدولة حسين بن مفلح في رجب وخرج معه ناظرا في أعمال الشام أبو ووجد أعداء الوزير أبي البركات الحسين بن محمد الجرجرائي سبيلاً إلى إغراء المستنصر به وأنه تسرع فيما عادت مضرته على الدولة من تجهيز العساكر إلى حلب‏.‏

فحركت هذه الأقوال وما يشبهها عليه ما يحقده الخليفة من استبداده بأمور من غير أمر ولا استئذان فأمر به فقبض عليه ونفى إلى صور في منتصف شوال فاعتقل بصور‏.‏

فكانت وزارته سنة وتسعة أشهر وعشرة أيام‏.‏

ثم أفرج عنه ومضى إلى دمشق‏.‏

وبقي الأمر في الوزارة عدة أيام والخليفة يعرض لقاضي القضاة أبي محمد اليازوري بالوزارة وهو يمتنع عليه فأسند إلى أبي الفضل صاعد بن مسعود من الأمراء وأقيم واسطةً لا وزيرا وخلع عليه ولقب بعميد الملك زين الكفاة وجعل يرسم عليه عرض ما يختص بالرجال دون الأموال‏.‏

وكان إذا أراد الاستئذان على ما يفعل جلس اليازوري بحضرة الخليفة واستدعى أبو الفضل فعرض ما يحتاج إليه فيتقدم إليه اليازوري بما يفعله‏.‏

ويخرج في نفسه من اليازوري ما كان يدور بينه وبين الوزراء في معناه‏.‏

فأخذ يحمل عليه الرجال ويوهمهم أنه إذا سأل لهم في زيادة أو ولاية يعترضه اليازوري ويفسد عليه‏.‏

فلما كان في بعض الأيام قال ناصر الدولة حسن بن حسين بن حمدان لبعض ثقاته‏:‏ اعلم أن القاضي له الثناء الجميل الكثير ونحن شاكرون له مقيدون بجميله مفتقرون إلى جاهه في جميع أمورنا واعتفاؤه من هذا الأمر لا يبرئه من ذمنا إن وقفت حوائجنا ويكون الشكر فيه لغيره إن قضيت وهذا الرجل عميد الملك هوذا يحمل الرجال عليه ويشعرهم أنه يجتهد في قضاء حوائجهم وأنه يعترضه بما يبطلها عليهم وفي هذا الأمر ما تعلمه‏.‏

فقل أنت له عني‏:‏ يا سيدنا إما أن تزيد شكر الرجال وسلامة صدورهم لك وخلاص نياتهم في طاعتك فادخل في هذا الأمر فإن أحسنت عرفوا ذلك لك وشكروه منك وإن أسأت كان عليك ضرره وشره وإلا فاعتزل جانبا ولا تلعب بروحك مع الرجال وإلا أبلغك أبو الفضل‏.‏

فبلغه الرجل ذلك فقال‏:‏ أمهلني الليلة ثم بكر إلي‏.‏

فلما كان في السحر بكر إليه فقال‏:‏ أعد علي قول ناصر الدولة فأعاده‏.‏

فقال‏:‏ أقره عني السلام وقل له‏:‏ والله إلا أدخل فيه ويكون لي خيره وشره‏.‏

وأبلغ ناصر الدولة رسالته فقال‏:‏ هذا هو الصواب‏.‏

 سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة

في سابع المحرم قرىء سجل القاضي أبي محمد اليازوري بالوزارة ولقب بالوزير الأجل المكين سيد الوزراء تاج الأصفياء قاضي القضاة وداعي الدعاة علم المجد خالصة أمير المؤمنين وخلع عليه‏.‏

فنظر في الوزارة وليس من أهلها ولا من أرباب الكتابة فمضى فيها مضي الجواد ونهض مسرعاً نهوضا عز به في وجوه من تقدمه مع ما بيده من قضاء القضاء والدعوة والنظر في ديوان السيدة‏.‏

وكاتب ملوك الأطراف فأجابوه بوفور حقه إلا معز الدولة بن باديس الصنهاجي صاحب إفريقية فإنه قصر في المكاتبة عما كان يكاتب به من تقدم من الوزراء فإنه كان يكاتب كلا منهم بعبده فجعل مكاتبته صنيعته‏.‏

فاستدعى الوزير أبا القاسم ابن الإخوة وكيل ابن باديس بمصر وعتب صاحبه عنده وقال‏:‏ أن معزاً ينقصني عمن تقدمني إذا لم أكن من أهل صناعة الكتابة وإن لم أكن أوفى منهم فما أنا دونهم ومن رفعه السلطان ارتفع وإن كان خاملاً ومن وضع اتضع وإن كان جليلا نبيلاً فاكتب إليه بما يرجعه إلى الصواب‏.‏

فكتب إليه بذلك وقد أذكى الوزير عليه عيونا يطالعونه بأنفاسه‏.‏

فلما وقف على كتاب ابن الإخوة قال‏:‏ ما الذي يريد مني هذا الفلاح لا كنت عبده ولا كان هذا لا يكون أبدا وما كتبت إليه فكثير‏.‏

فطالعه عيونه بقوله فأحضر ابن الإخوة وقال له‏:‏ قد جرى صاحبك على عادته في الجهل فاكتب إليه بما يردعه فيه وإلا عرفته بنفسي إذ لم يعرفني‏.‏

فكتب إليه بذلك فأجاب بما هو أقبح من الأول‏.‏

فدس إليه الوزير من تلطف في أخذ سكين دواته فلما وصلت إليه أحضر ابن الإخوة وقال له‏:‏ كنت أظن بصاحبك أن الذي حمله على ما كان منه ثروة الشبيبة وقلة خبره بما تقضي به الأقدار وأنه إذا نبه تنبه فإذا الجهل مستول عليه وظنه أن بعد المسافة بيننا وبينه يمنع من الانتصاف منه والوصول إليه بما يكره وقد تلطفنا في أخذ سكين دواته وها هي ذي فأنفذها إليه وأعلمه أنا كما تلطفنا في أخذها أنا نتلطف في ذبحه بها‏.‏

ودفعها إليه‏.‏

فكتب ابن الإخوة بذلك فازداد شراً وبطراً‏.‏

فدس عليه من أخذ نعله وكان يمشي في الأحذية السندية فلما وصلت إليه أحضر ابن الإخوة وقال له‏:‏ اكتب إلى هذا البربري الأحمق وقل له إن عقلت وأحسنت أدبك وإلا جعلنا تأديبك بهذه

فجرى على عادته في القول القبيح‏.‏

وفيها توسل ثمال بن صالح في الصفح عنه وأطلق المأسورين وسعى في ذلك علي ين عياض قاضي صور وسير ثمال زوجته علية بنت وثاب بن جعفر النميري وولده وثابا إلى القاهرة ومعهما مال سنتين أربعون ألف دينار‏.‏

فقام اليازوري بأمرهم فقبلهم المستنصر وبالغ في الإحسان إليهم وزاد في ألقاب ثمال وألقاب مقلد ابن عمه ولقب قاضي صور عين الدولة‏.‏

وفيها ملك المستنصر حصن المنيعة بالشام‏.‏

 سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة

فيها أظهر المعز بن باديس صاحب إفريقية الخلاف على المستنصر وسير رسولاً إلى بغداد ليقيم الدعوة العباسية واستدعى منهم الخلع فأجيب إلى ذلك‏.‏

وجهزت الخلع على يد رسول يقال له أبو غالب الشيزري ومعه العهد واللواء الأسود فمر ببلاد الروم ليعدى منها إلى إفريقية فقبض عليه صاحب الروم‏.‏

وبلغ ذلك المعز بن باديس فأرسل إلى قسطنطين ملك الروم في أمره فلم يجبه رعايةً لحق المستنصر‏.‏

واتفق قدوم رسول طغرلبك يستأذنه في مسيره إلى مصر فأظهر المودة التي بينه وبين المستنصر وأنه لا يرخص في أذيته‏.‏

واتفق قدوم رسول المستنصر إليه بهدية عظيمة فبعث معه برسول القائم بما على يده فدخل إلى القاهرة على جمل وأحرق العهد واللواء والهدية في حفرة بين القصرين وكان القادر قد فعل مع الظاهر والد المستنصر مثل ذلك بالخلعة التي سيرها إلى محمود بن سبكتكين‏.‏

ثم أقر المستنصر رد الرسول إلى صاحب القسطنطينية‏.‏

وكان سبب عصيان ابن باديس ما تقدم من تقصيره في مكاتبة الوزير اليازوري وما دار في ذلك‏.‏

وكان بطرابلس الغرب وما والاها زغبة ورياح وهما قبيلتان من العرب وبينهما حروب وعداوة فأحضر الوزير مكين الدولة أبا علي الحسن بن علي بن ملهم بن دينار العقيلي أحد أمراء الدولة وكان رجلا عاقلا وسيره إلى زغبة ورياح بخلع سنية وأنعام كثيرة وأمره أن يصلح ذات بينهما ويتحمل ما بينهما من ديات ويفديه بالزيادة في إقطاعاتهما‏.‏

فلما تم له ذلك أمرهم بالمسير إلى المعز بن باديس وأباحهم دياره وتشدد في هذا الأمر حتى توجه المذكورون إلى ديار ابن باديس وملكوها وجمعوا ذيوله عليه وقلموا أظفاره وضيقوا خناقه حتى لم يتمكن من قتالهم إلا مستنداً إلى حيطان إفريقية‏.‏

وذلك أنهم ملكوا برقة فسار إليهم المعز فهزموه وتبعوه إلى إفريقية وحصروا المدن فنزل بأهل إفريقية بلاء لا يوصف فخرج إليهم المعز في أربعين ألفا وقاتلهم فهزموه إلى القيروان‏.‏

ثم جمع ثمانين ألفا وقاتلهم فهزموه وأكثروا من القتل في أصحابه وحصروه بالقيروان‏.‏

وأقاموا يحاصرون البلاد وينهبون إلى سنة تسع وأربعين فانتقل المعز إلى المهدية في شهر رمضان منها حتى نفدت أمواله وقلت عدده وتفلت منه رجاله وأشرف على التلف فلم يجد سبيلاً غير إعمال الحيلة في خلاصه‏.‏

فخرج متخفياً في زي امرأة حتى انتهى إلى المهدية فاستولت العربان على حرمه وداره وغلمانه وقتلوا الرجال وسبوا النساء وانتهبوا ما كان في دوره وقصوره وعاثوا في البلد ينهبون ويأسرون ويقتلون فخربت القيروان حينئذ إلى اليوم‏.‏

ووصل كثير مما نهب من قصور بني باديس من الأسلحة والعدد والآلات والخيام وغيرها إلى القاهرة فكان ليوم دخولها إلى القاهرة أمر عظيم من اجتماع الناس واعتبار أهل البصائر بتقلب الأحوال‏.‏

وكان من خبر دخول العرب إلى المغرب أن بطون هلال وسليم من مضر لم يزالوا في البادية ونجعوا من نجد إلى الحجاز فنزل بنو سليم مما يلي المدينة النبوية ونزل بنو هلال في جبل غزوان عند الطائف وكانوا يطرقون العراق في رحلة الشتاء والصيف فيغيرون على أطراف الشام والعراق وكانت بنو سليم تغير على الحاج أيام الموسم وزيارتهم المدينة‏.‏

ثم تجهز بنو سليم وكثير من ربيعة بن عامر إلى القرامطة عند ظهورهم وصاروا جنداً لهم بالبحرين وعمان وقدموا معهم إلى الشام‏.‏

فلما غلبت القرامطة في أيام المعز لدين الله أبي تميم معد ثم في أيام ابنه العزيز بالله أبي منصور نزار وانهزموا من الشام إلى البحرين نقل العزيز بالله من كان معهم من بني هلال وسليم إلى مصر وأنزلهم بالجانب الشرقي من بلاد الصعيد‏.‏

وأقاموا هنالك وأضروا بالبلاد إلى أن ملك المعز بن باديس القيروان في سنة صمان وأربعمائة وهو ابن ثماني سنين من قبل الظاهر لإعزاز دين الله علي بن الحاكم بأمر الله فامتدت أيامه حتى قام في الخلافة المستنصر بالله أبو تميم معد بن الظاهر واستوزر أبا محمد اليازوري فأنف من مكاتبته بالمولى وكان ما تقدم ذكره‏.‏

فحلف المعز بن باديس ليحلون الدعوة إلى بني العباس ولج في ذلك وقطع الدعاء للمستنصر وأزال اسمه من الطرز والرايات ودعا للقائم أبي جعفر بن القادر في سنة أربعين وأربعمائة وكتب إليه بذلك‏.‏

فكتب إليه بالعهد صحبة أبي الفضل بن عبد الواحد التميمي فقرأ كتابه بجامع القيروان ونشر الرايات السود وهدم دار الإسماعيلية‏.‏

ووصل الخبر بذلك إلى القاهرة فأشار اليازوري بتجهيز أحياء هلال بن جشم‏.‏

والأشروزينية ورياح وعدي وربيعة إلى المغرب وتولية مشايخهم أعمال إفريقية‏.‏

فقبلت مشورته‏.‏

وأرسل إليهم في سنة إحدى وأربعين وحمل إلى مشايخهم الأموال وأنعم على سائرهم بفرو ودينار لكل أحد وأبيح لهم حمى المغرب‏.‏

وكتب اليازوري إلى المعز بن باديس‏:‏ أما بعد فقد أنفذنا إليكم خيولا فحولا وأرسلنا عليها رجالا كهولا ليقتضي الله أمراً كان مفعولاً‏.‏

فسارت العرب إلى برقة وفتحوا أمصارها وكتبوا لإخوانهم الذين بشرقي الصعيد يرغبونهم في البلاد فأعطوا من الدولة دينارين لكل واحد ومضوا إلى أصحابهم فتصارعوا على البلاد فحصل لسليم الشرق ولهلال المغرب‏.‏

وخربوا المدينة الحمراء وأجدابية وسرت‏.‏

وأقامت بطون من سليم وأحلافها بأرض برقة وسارت قبائل دياب وعرق وزغب وجميع بطون هلال إلى إفريقية كالجراد المنتشر لا يمرون بشيء إلا أتوا عليه حتى وصلوا إلى إفريقية سنة ثلاث وأربعين‏.‏

وكان أول من وصل منهم أمير رياح مؤنس بن يحيى العنزي فاستماله المعز بن باديس وكثر عيثهم في البلاد ونادوا بشعار المستنصر‏.‏

فبعث إليهم المعز العسار فأوقعوا بها فخرج إليهم في ثلاثين ألفا فهزموه وفر بنفسه وخاصته إلى القيروان فنهبوا جميع ما كان معه وقتلوا واقتسم العرب بلاد إفريقية في سنة ست وأربعين وكان لزغبة طرابلس وما يليها ولمرداس بن رياح باجة وما يليها‏.‏

ثم اقتسموا البلاد ثانيا وكان لهلال من قابس إلى المغرب وهم رياح وزغبة والمعقل وجشم وترنجة والأسيح وشداد والخلط وسفيان‏.‏

ونصوح الملك من المعز بن باديس فركب البحر في سنة تسع وأربعين فدخل العرب القيروان واستباحوه وخربوا مبانيه فتفرق أهله في البلاد‏.‏

ثم أخذوا المهدية وحاربوا زناتة من بعد صنهاجة وغلبوهم على الضواحي واتصلت الفتنة بينهم فخربت إفريقية بأسرها وصيروا البربر لهم خولاً‏.‏

ومات المعز بن باديس سنة أربع وخمسين وأربعمائة‏.‏

وكان المستنصر لما بعثهم إلى إفريقية جعل المؤنس بن يحيى المرداسي ولاية القيروان وباجة وأعطى زغبة طرابلس وقابس وجعل الحسن بن مسرة في ولاية قسنطينة فلما غلبوا صنهاجة ملك كل منهم ما عقد عليه فاشتد عيثهم وإفسادهم‏.‏

وفيها كانت وقعة البحيرة‏.‏

وذلك أنها في إقطاع بني قرة وقد ملكوها وعمروا ضياعها وكثرت فيها أموالهم واشتدت شوكتهم وخشن جانبهم وكثر المقدمون فيهم حتى انتشر ذكرهم وذل لهم عددهم وثقل أمرهم على الولاية بالإسكندرية فجاورهم الطلحيون واستذموا منهم وكانت لهم واجبات على الدولة من غير إقطاع وهم يأخذون واجباتهم محمولة مع واجبات العسكر بالإسكندرية عندما تحمل إليها‏.‏

فاتفق أن ناصر الدولة ابن حمدان أبا نصر الدولة حسين كان واليا بالإسكندرية‏.‏

فاستحق الطلحيون على الدولة عن واجباتهم المذكورة ثلاثة آلاف دينار فواصلوا اقتضاء ناصر الدولة إنفاقهم فيهم فوعدهم وكتب إلى الحضرة يلتمس ذلك فوعده الوزير أنه إذا حمل إلى رجال العسكر استحقاقهم حمل ذلك في جملته‏.‏

وكان قد بقى على حمل المال شهران فاستبعدوا الصبر إلى ذلك الوقت وواصلوا مطالبته وحملوا القريين على معونتهم عليه فاضطروه إلى المسير معهم إلى الحضرة لالتماس ذلك فسار إلى الجيزة وطلع إلى الوزير وعرفه الحال فقال ما أخرنا ذلك عنهم إلا أن السنة كثيرة النفقات والطوارئ وهذه ألف دينار أنفقها فيهم إلى أن تحمل باق مالهم مع مال العسكر‏.‏

فأخذ الألف وعرفهم ما قال الوزير‏.‏

فامتنعوا عن الأخذ وأبوا إلا قبض الثلاثة آلاف وألزموه بالعود‏.‏

فعاد وعرف الوزير فاغتاظ وأمر لهم بألف أخرى‏.‏

فنزل إليهم فأبوا إلا أخذ الجميع وجفوا في الخطاب فعاد إلى الوزير وعرفه فغضب وقال‏:‏ إجابتهم إلى ما التمسوه دفعةً بعد أخرى طمعهم طمعهم والله لا أطلق لهم درهماً واحداً‏.‏

واستعاد الألفي دينار وتقدم بتجريد العسكر لهم فتسرع يزحف مع ليث الدولة كافور الشرابي ونزل إليهم فإذا هم قد تأهبوا للقائهم‏.‏

فجرت بينهم وقفة قتل فيها اثنان من العسكر وحجز بينهما الليل‏.‏

وبلغ الوزير ذلك فشق عليه إقدامهم على المحاربة سيما بنو قرة فإنهم صلوا الحرب وكانوا فيها أشد من الطلحيين‏.‏

فأخذ الوزير يجرد إليهم العساكر فانطردوا وجمعوا حشودهم والتقوا بكوم شريك وكانت الدائرة عليهم وقتل منهم خلق كثير‏.‏

وأنهزموا والعساكر تتبعهم فأحاطت بأموالهم من كل ما يملكونه وفر بنو قرة على وجوههم إلى برقة ومعهم الطلحيون فانقطع أثرهم من البحيرة إلى اليوم وصاروا مطردين في قبائل العرب نحواً من أربعين سنة‏.‏

وكان كل من بالحضرة يفند رأى الوزير في تجهيز العساكر إليهم ويحكمون بأنهم لا يفارقون إلى البحيرة فجاء الأمر بخلاف ظنهم‏.‏

ثم إن الوزير رأى أن في إقامة العساكر في أعمال البحيرة كلفةً كبيرة فأرسل إلى بني سنبس وكانوا بالداروم وفلسطين وقد ثقلت وطأتهم هنالك وصعب أمرهم فعدى بهم إلى البحيرة وهم أعداء قيس وأوطأهم ديارهم وأقطعهم أرضهم فمحى اسم بني قرة من هناك‏.‏

وكان تجهيزه للعسكر في شهر رمضان وتسييره لهم إلى بني قرة في مستله شوال فخطأه الناس في فعله وقالوا لم يجرد عسكر قط في شوال فظنوا أنه لا يؤمن على العسكر أن ينهزم وينكسر‏.‏

وكان شمس الدولة زمام الأتراك والقيصرية وإليه زم القصور والخدمة في الرسالة وليس أحد في الدولة يجري مجراه جلالة وتقدما بينه وبين الوزير مباينة شديدة ويتربص به الدوائر ويغتال له الغوائل فكان ينتظر إنهزام العسكر ليقبض عليه‏.‏

فلما أراد العسكر أن يسير من الجيزة ومقدمه ناصر الدولة قرر معه لقاءهم في اليوم الخامس من شوال بطالع يخبره به وسير معه عدة طيور من الحمام ليطالعه بما يكون يوما بيوم‏.‏

فلما كان في ذلك اليوم وهو يوم خميس جلس في داره وقد اشتد قلقه وكثر اهتمامه بما يكون من العسكر واحتجب عن الناس لشغل سره وجلس ينتظر الطائر‏.‏

فلم يزل كذلك إلى الساعة الخامسة من نهاره فقام ليجدد طهارة فعبر البستان وقد أطلق الماء في مجاريه فرأى ورقة تمر على وجه الماء فأخذها متفائلاً بها فوجدها أول كتاب كان قد وصل من القائد فضل إلى الحاكم بأمر الله قد ذهبت طرته وعنوانه وبقى صدره وهو‏:‏ كتب عبد مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين من المخيم المنصور في الساعة الخامسة من نهار الخميس الخامس من شوال وقد أظفره الله عز وجل بعدو الله تعالى وعدو الحضرة المطهرة أبي ركوة المخذول وهو في قبضة الأسارى والحمد لله رب العالمين‏.‏

فلما وقف على ذلك سجد شكراً لله تعالى وعجب من موافقة اليوم وعدة الأيام من شوال والأعلام بالظفر‏.‏

ثم تجهز للصلاة فما فرغ حتى سقط الطائر بانكسار بني قرة وانهزامهم وما من الله تعالى به من الظفر بهم‏.‏

فأخذ الكتاب والطائر وركب إلى القصر ودخل إلى المستنصر وأوقفه على الكتاب فسر بذلك وأراه الطير ثم تواصلت رسل ناصر الدولة بالبشرى وشرح الحال في الظفر وانهزام القوم فخلع على الوزير وزيد في ألقابه للدين غياث الدين فتم له النظر وقوى أمره وذلك من كان يعاديه فجرى على عادته في العفو والمجاملة‏.‏

وكان أهل جزيرة صقلية قد خالفوا الدولة غير مرة لما فيهم من الشر والغلظة وطردوا الولاة‏.‏

وصار إليهم المعز ابن باديس فملكوه عليهم وقد خرج عن طاعة الدولة فأساء السيرة فيهم وثقل عليهم فوثبوا عليه وأخرجوه منها‏.‏

وكاتبوا ملك الروم فسار إليهم بطريق كبير فولوه أمرهم مدة ثم وثبوا به وأخرجوه عنهم‏.‏

وبعثوا إلى الحضرة يسألون إقالة عثرتهم والعفو عنهم ويسألون إيفاد وال‏.‏

وكان بصقلية بنو أبي الحسين لهم رئاسة وفيهم من يؤهل نفسه لولايتها فسارت الخلع إلى رجل منهم يعرف بمستخلص الدولة فمكث فيهم زمانا ثم نفروا منه وبعثوا يسألون تغييره عنهم‏.‏

فسير الوزير رجلاً من أمراء الدولة يعرف بصمصام الدولة ابن لؤلؤ وأسر إليه أن يتلطف في إخراج بني أبي الحسين من صقلية ويسيرهم إلى الحضرة‏.‏

فدخل إليها وساس أمره حتى بعث بجميع من كان فيها من بني أبي الحسين‏.‏

واستقام الأمر في صقلية بخروجهم عنها‏.‏

وقام ببلاد اليمن رجل يعرف بعلي بن محمد الصليحي يتشيع فحسن له الدعاة الدخول في نصرة خلفاء مصر فأعلن ذلك بها ودعا أهل اليمن إليها وحمل تجارتهم مع هدية جليلة القدر تبلغ زهاء عشرة آلاف دينار إلى المستنصر‏.‏

وكان أبوه قاضياً باليمن سني المذهب وزوجته أسماء ابنة عمه شهاب وكانت أجمل خلق الله وهي أم الدعاة باليمن وعرفت بالحرة‏.‏

وكانت ذات عز وكرم وتفاخر بنوها بها ومدحت‏.‏

وكان باليمن الداعي عامر بن عبد الله الرواحي فاستمال أبا الحسن علي بن محمد بن علي الصليحي وهو صغير حتى مال إليه فلما مات عامر أوصى له بكتبه وعلومه فدرسها حتى تضلع من معارفه وصار من فقهاء الشيعة وحج بالناس دليلاً خمس عشرة سنة‏.‏

ثم ثار في سنة تسع وعشرين وأربعمائة وتزايد أمره ودعا للمستنصر وكتب إليه بما هو عليه واستأذنه في المسير إلى تهامة فأذن له‏.‏

ولم تخرج سنة خمسين وأربعمائة حتى ملك السهل والجبل الوعر من بلاد اليمن‏.‏

وجهز الوزير إلى النوبة فأضعف عليهم البقط وحملوه واستقر الأمر على ذلك‏.‏

 سنة أربع وأربعين وأربعمائة

فيها كتبت بغداد محاضر تتضمن القدح في نسب الخلفاء المصريين ونفيهم من الالتحاق بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وجمع سائر أعيان الفقهاء ببغداد وأشرافها وقضاتها وعزوا نسبهم في الديصانية من المجوس‏.‏

وسيرت المحاضر إلى البلاد وشنع عليهم تشنيع كبير‏.‏

وسبب ذلك الغضب ما عمل مع الرسول المرسل من المعز بن باديس فإنه لما شهر بالقاهرة على جمل مقلوب وكتاب العقد في عنقه والهدية بين يديه ثم أحرقت الخلع والتقليد أعيد الرسول إلى ملك الروم فعز عليه ما فعل واعتذر إليه منه فإنه كان قد ضمن له من مصر إعادته إليه سالماً بعد ما جرت مخاطبة في طلبه‏.‏

ثم أعاده ملك الروم إلى بغداد فوصل في سنة أربع وأربعين هذه‏.‏

وسبب عوده أن المعز بن باديس بعث رسوله أبا القاسم بن عبد الرحمن إلى بغداد في ذلكن فبعث معه الملك طغرلبك أبا علي بن كبير ليخاطب ملك الروم في رد أبي غالب وكتب معه كتابا عنوانه‏:‏ من ركن الدين وغياث المسلمين بهاء دين الله وسلطان بلاد الله ومغيث عباد الله أبي طالب يمين الخليفة أمير المؤمنين إلى عظيم الروم‏.‏

ومضمونه بعد البسملة‏:‏ الحمد لله القاهر سلطانه الباهر برهانه العلي شأنه السابغ إحسانه ثم مر فيه إلى أن قال‏:‏ وقد نجم بمصر منذ سنين ناجم ضلالة يدعو إلى نفسه ويغتر بمن أغواه من حزبه ويعتقد من الدين ما لا يستجيزه أحد من أهل العلم في الأئمة الأول وهذا العصر ولا يستحسنه عاقل من أهل الإسلام والكفر‏.‏

ثم ذكر رسول أبا غالب وعاتب في أمره وطلب تسييره مخفوراً إلى المعز بن باديس‏.‏

فقدم إلى قسطنطين‏.‏

متملك الروم بالقسطنطينية في صفر من هذه السنة فتلقاه الملك وأدخله عليه وسأله عن السلطان طغرلبك فذكر له الرسالة وطلب منه مقاطعة صاحب مصر وإطلاق أبي غالب وإرسال رسول المعز إليه‏.‏

فقال له‏:‏ صاحب مصر مجاور لنا وبيننا وبينه عهود وهدنة وقد بقي منها سنتان ولا يمكن فسخها وأما رسل المعز والرسل إليه فهم قوم يسعون في الفساد‏.‏

وتردد القول إلى أن أطلق أبا غالب وأجازه إلى المعز وعاد أبو علي ورفيقه إلى بغداد في بقية السنة‏.‏

وفيها قصر مد النيل ولم يكن في المخازن السلطانية شيء من الغلال فاشتدت المسغبة بمصر‏.‏

وكان لخلو المخازن السلطانية من الغلال سبب وهو أن الوزير اليازوري لما تقلد وظيفة قضاء القضاة في وزارة أبي البركات الجرجرائي كان ينزل إلى الجامع بمصر في يومي السبت والثلاثاء من كل جمعة فيجلس في الزيادة منه للحكم على رسم من تقدمه من القضاة وإذا أقبل العصر طلع إلى القاهرة‏.‏

وكان في كل سوق من أسواق مصر على أرباب كل صنعة من الصنائع عريف يتولى أمورهم وكانت عادة أخباز مصر في أزمنة المساغبة متى بردت لا يرجع منها إلى شيء لكثرة ما تغش به‏.‏

وكان لعريف الخبازين دكان وكان يبيع الخبز وبحذانها دكان لصعلوك يبيع الخبز أيضاً وكان سعره يومئذ أربعة أرطال بدرهم وثمن‏.‏

فرأى الصعلوك أن خبزه قد كاد يبرد فخاف من كساده فنادى عليه أربعة أرطال بدرهم ليرغب الناس فيه فمال إليه الزبون فاشتروا خبزه لأجل تسمحه بثمن درهم وبار خبز العريف فغضب ووكل به عونين من الحسبة أغرماه دراهم‏.‏

ووافق ذلك نزول قاضي القضاة إلى الجامع فاستغاث به فأمر بإحضار المحتسب وأنكر ما فعله واعتذر بأن هذا من العريف وأنه لم يتحقق باطن الحال‏.‏

فأمر القاضي بصرف ذلك العريف وأن يغرم ما أخذ من الخباز والتفت إلى صاحب ديوانه وقال‏:‏ ما معك فادفعه إلى هذا الخباز‏.‏

فناوله قرطاسا فيه ثلاثون رباعيان فكاد عقله يطير فرحا‏.‏

وعاد فنادى على الخبز خمسة أرطال بدرهم فمال إليه الناس وهو ينادي بزيادة رطل برطل إلى أن بلغ عشرة أرطال بدرهم‏.‏

وانتشر ذلك في البلد جميعه وتسامح الناس به فتسارعوا إليه فلم يبق في البلد خباز حتى باع عشرة أرطال بدرهم‏.‏

وكانت العادة أن يبتاع في كل سنة غلة للسلطان بمائة ألف دينار ويمحل متجرا‏.‏

فلما عاد القاضي إلى القاهرة مثل بحضرة الخليفة وعرفه ما مر به في يومه من إرخاص السعر بغير موجب وقال‏:‏ يا مولانا إن المتجر الذي يقام بالغلة فيه مضرة كبيرة على المسلمين وربما انحط السعر عن مشتراها فلا يمكن بيعها فتتغير في المخازن وتتلف وأنه يقام متجر لا كلفة على الناس فيه ويفيد أضعاف فائدة الغلة ولا يخشى عليه من تغير في المخازن ولا انحطاط سعر وهو الخشب والصابون والحديد والرصاص والعسل وما أشبه ذلك‏.‏

فأمضى الخليفة ما رآه وبطل المتجر في الغلة وتوسع الناس بذلك‏.‏

 سنة خمس وأربعين وأربعمائة

سنة ست وأربعين وأربعمائة

فيها أيضا قصر مد النيل ونزع السعر ووقع الوباء‏.‏

ولم يكن في المخازن السلطانية إلا ما ينصرف في جرايات من في القصور ومطبخ الخليفة وحواشيه لا غير فورد على الوزير من ذلك ما أهمه‏.‏

وصار سعر التليس ثمانية دنانير واشتد الأمر على الناس‏.‏

وكان التجار بين نار المعاملين وضيق الحال عليهم في القيام للديوان بما يجب عليهم من الخراج ومطالبة الفلاحين بالقيام به يبتاعون منهم غلاتهم على أن يصبروا عليهم إلى حين إدراكه بسعر يربحون فيه‏.‏

فإذا استقرت مبايعتهم لهم حضروا معهم للديوان وقاموا عنهم للجند بما يجب عليهم وكتب ذلك في روزنامج الجند مع مبلغ الغلة فإذا أدركت الغلة وصارت الأجران يكتالونها ويحملونها إلى مخازنهم‏.‏

فمنعهم الوزير من ذلك وكتب إلى العمال بجميع النواحي أن يستعرضوا روزنامجات الجهابذة ويحضروا منها ما قام به التجار من المعاملين ومبلغ الغلة الذي رفع الإيقاع إليه وأن يقدموا للتجار ما وزنوه للديوان ويربحوهم في كل دينار ثمن دينار ويضعوا ختومهم على المخازن ويطالعوا ما يحصل تحت أيديهم بها‏.‏

فلما تحصلت بالنواحي جهز المراك بحمل العلات وأودعها المخازن السلطانية بمصر وقرر ثمن كل تليس ثلاثة دنانير بعد أن كان ثمانية دنانير‏.‏

وسلم إلى الخبازين ما يبتاعونه لعمارة الأسواق ووظف ما تحتاج إليه القاهرة ومصر فكان ألف تليس في كل يوم لمصر سبعمائة وللقاهرة ثلثمائة‏.‏

فقام بالتدبير أحسن قيام مدة عشرين شهرا حتى أدركت الغلة فتوسع الناس بها وزال عنهم الغلاء‏.‏

وكان عند استقرار الهدنة مع قسطنطين ملك الروم في أيام وزارة أبي نصر الفلاحي قد وصل رسولان أحدهما هو المتكلم المترجم وكان داهيةً أديبا شاعرا نحويا فيلسوفا ولد بالروم ونشأ بأنطاكية ودخل العراق ولقن من العلوم والآداب ما بعد به صيته وكان يعرف بابن أصطفانوس والآخر متحمل الهدية وهو صاحب حرب يعرف بميخائيل‏.‏

فرأيا من حسن زي الدولة وجميل سيرتها ما أعجبا به لا سيما ميخائيل فإنه أطربه ما رأى وحسن موقعه في نفسه‏.‏

وساروا وقد امتلأت قلوبهما بمحبة ما شاهداه‏.‏

فاتفق ملك الروم وتمليك ميخائيل هذا فبلغه ما بمصر من الغلاء فحمل إليها مائة ألف قفيز قمحا وقدم كتابه أمامها يعين الغلة والكيل الذي تستوفي به إذا وصلت فانتهت إلى أنطاكية‏.‏

وأعد هدية الهدنة على ما جرت به العادة وهديةً من ماله‏.‏

فلما رأى الروم ذلك ظنوا به الميل إلى الإسلام فقتلوه في ثامن شوال فكانت مدة ملكه اثنتي عشرة سنة سبعة أشهر وعمره أربع وخمسون سنة وشهر واحد‏.‏

وأقاموا رجلا يعرف بابن سقلاروس من أهل أنطاكية وكان لجوجاً خبيثاً حديدا فاعترض الهديتين وأخذهما وقال‏:‏ أنا أنتفع بهما وأنفق ثمنهما على قتال المسلمين‏.‏

وكانت للوزير بالقسطنطينية عيون فكتبوا إليه بذلك فسير مكين الدولة الحسن ابن علي بن ملهم الكتامي إلى اللاذقية في عسكر لحصارها والتضييق على من فيها فحاصرها حتى اشتد على من فيها الأمر‏.‏

فكتب ابن سقلاروس متملك الروم إلى الحضرة يستوضح ما الذي أوجب ذلك فأجيب أن الذي أوجبه ما كان فعله في نقض ما استقر مع من تقدمه من الهدنة وقبض الهدية والهدية التي ليست من ماله‏.‏

فأجاب بأنه يحمل الهدية فاشترط عليه إطلاق من في بلاد الروم الأسرى‏.‏

فأجاب بأنه إذا أطلق من لهم في بلاد الإسلام من أسرى الروم أطلق من في بلاد الروم من أسرى المسلمين‏.‏

فأجيب بأنه لا يصح التماسه لذلك لأن من أسر من بلاد الروم تفرقوا في الممالك بالعراق والدولة الفاطمية والمغرب واليمن وغير ذلك ولا حكم للحضرة على جميع الممالك ويرتجع منها ما صار في أيدي أهلها وبلاد الروم بخلاف ذلك ومن حصل فيها من المسلمين كمن هو معتقل في دار واحدة لا يمكنه الخروج منها إلا بإذن أهلها وبين الحالين فرق كبير‏.‏

فأجاب بأنه لا يطلق من في بلاده من أسرى المسلمين‏.‏

فاشترط عليه النزول عما صار في أيدي الروم من الحصون الإسلامية فامتنع من ذلك وقال إذا سلم إلينا ما صار في أيدي المسلمين من حصون المسلمين من حصون الروم سلم ما في أيديهم من حصون المسلمين‏.‏

فبدل الجيش بجيش آخر وخرج مع مقدمه الأمير السعيد ليث الدولة فنازل اللاذقية حتى فتحها ووقع العنف فيها‏.‏

وأجيب بأنه لا يصح أن يسلم إليهم ما صار في أيدي المسلمين من الحصون لأنهم قد أنبتوا فيها العقارات وأنشئوا فيها البساتين‏.‏

فقال‏:‏ يدفع لهم عن أملاكهم وما أنشئوه من البساتين وغيرها وما أنفقوه فيها وينتقلون عنها إلى غيرها من بلاد المسلمين‏.‏

فأجابوا إلى أن يسلموا ما في أيديهم من الحصون الإسلامية‏.‏

وكانت العادة جارية بأنه إذا وصلت هدية من الروم إلى الحضرة تقوم ويحمل إليهم هدية موضعها بثلثي قيمتها ليكون للإسلام مزية عليهم بالثلث فاشترط أن يكون فيمة ما يحمل إليهم من الهدية عوضاً عن قيمة هديتهم النصف فأجابوا إلى ذلك أيضا‏.‏

فاشترط عليهم أن يردوا كل من تضمه دار البلاد التي هي دار الملك ومحله فامتنع من ذلك‏.‏

فأمد الجيش بجيش ثالث وعليه أميران هما موفق الدولة حفاظ بن فاتك وأبو الجيش عسكر بن الحلي ومقاد جميع الجيش إلى الأمير مكين الدولة وأمينها ابن ملهم‏.‏

فأوغلوا في بلاد الروم ينهبون ويقتلون ويأسرون حتى أعظموا النكاية فيها والرسل والمكاتبات تتردد إلى أن استقر القيام بالجزية التي التمسها أمراء البلاط وجهزت الهدية‏.‏

وبلغت الجزية المذكورة نيفا وثلاثين ألف دينار‏.‏

وحمل ذلك إلى أنطاكية فبلغهم قتل الوزير فأعيدت إلى القسطنطينية‏.‏

وزينت بلاد الروم لموته وكثر ابتهاجهم بما صرف عنهم من خشونة جانبه عليهم وشدة شكيمته‏.‏

وأما ابن ملهم فإنه لما أوغل في بلاد الروم وقارب أفامية وجال في أعمال أنطاكية نهب وسبى فقدمت من القسطنطينية قطائع يقال إن عدتها ثمانون قطعة فكانت بينها وبين ابن ملهم حروب آلت إلى أن أسر هو وجماعة من أعيان العرب في آخر ربيع الآخر‏.‏

وفيها استدعى راشد بن عليان بن سنان أمير الكلبيين فاعتقل بالقاهرة وردت إمارة بني كليب لنبهان القريطي‏.‏

وقبض على إقطاع راشد وأخيه مسمار وهو مقيم بظاهر دمشق ففر إلى غالب بن صالح‏.‏

فكتب المستنصر إلى ثمال ينكر عليه تسيير هدية إلى ملك الروم فتحير في أمره واعتذر‏.‏